فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش}.
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن السماء مرفوعة على عمد، ولكننا لا نراها، ونظير هذه الآية قوله أضًا في أول سورة لقمان: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10]. واختلف العلماء في قوله: {تَرَوْنَهَا} على قولين: أحدهما أن لها عمدًا ولكننا لا نراها، كما يشير إليه ظاهر الآية، ومنن روى عنه هذا القول ابن عباس، ومجاهدن والحسنن وقتادة، وغير واحد، كما قاله ابن كثير.
وروي عن قتادة أيضًا- أن المعنى أنها مرفوعة بلا عمد اصلًان وهو قول إياس بن معاوية، وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة الحج أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]. قال ابن كثير: فعلى هذا يكون قوله: {تَرَوْنَهَا} تأكيدًا لنفي ذلك، اي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها كذلك، وهذا هو الأكمل في القدرة اهـ.
قال مقيده- عفا الله عنه: الظاهر أن هذا القول من قبيل السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، والمراد أن المقصود نفى اتصاف المحكوم عليه بالمحكوم به، وذلك صادق بصورتين:
الأولى: أن يكون المحكوم عليه موجودًا، ولكن المحكوم به منتف عنه، كقولك ليس الإنسان بحجر، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه.
الثانية: أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، كما أوضحناه في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، ومثاله في اللغة قول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره ** إذا سافه العود النباطي جرجرا

أي لا منار له اصلًا حتى يهتدي له، وقوله:
لا تفزع الأرنب أهوالها ** ولا ترى الضب بها ينجحر

يعني لا أرانب فيها ولا ضباب.
وعلى هذا فقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي لا عمد لها حتى تروها، والعمد: جمع عمود على غير قياس، ومنه قول نابغة ذبيان:
وخسيس الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

والصفاح- بالضم والتشديد-: الحجر العريض. اهـ.

.قال الشعراوي:

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)}
وقد سبق لنا أن تكلمنا طويلًا في خواطرنا عن الحروف التي تبدأ بها بعض من سور القرآن الكريم: مثل قوله الحق: {الم} [البقرة: 1]
وقوله: {المر...} [الرعد: 1]
ومثل قوله: {المص} [الأعراف: 1]
وغير ذلك من الحروف التوقيفية التي جاءتْ في أول بعض من فَواتِح السُّور.
ولكن الذي أُحب أن أؤكد عليه هنا هو أن آيات القرآن كلها مَبْنية على الوَصْل؛ لا على الوَقْف؛ ولذلك تجدها مَشْكُولة؛ لأنها مَوْصُولة بما بعدها.
وكان من المفروض لو طبَّقْنَا هذه القاعدة أن نقرأ {المر} فننطقها: ألفٌ لامٌ ميمٌ راءٌ، ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مَبْنية على الوقف، فنقول: ألفْ لامْ ميمْ راءْ.
وهكذا قرأها جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا نقرأها نحن. ويتابع سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب...} [الرعد: 1].
أي: أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم القرآن وهي إضافة إلى ما سبق وأُنْزِل إليك، فالكتاب كله يشمل من أول: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] في أول القرآن، إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الإضافة تأتي على ثلاث مَعَانٍ؛ فمرَّة تأتي الإضافة بمعنى من مثل قولنا أردب قمح والمقصود: أردب من القمح. ومرة تأتي الإضافة بمعنى في مثل قولنا: مذاكرة المنزل والمقصود: مذاكرة في المنزل.
ومرة ثالثة تأتي الإضافة بمعنى اللام وهي تتخذ شَكْليْنِ. إمَّا أن تكون تعبيرًا عن ملكية، كقولنا مالُ زيدٍ لزيد.
والشكل الثاني أن تكون اللام للاختصاص كقولنا لجام الفرس أي: أن اللجام يخص الفرس؛ فليس معقولًا أن يملك الفرس لِجَامًا.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب...} [الرعد: 1]
يعني تلك آياتٌ من القرآن؛ لأن كلمة {الكتاب} إذا أُطلِقتْ؛ فهي تنصرف إلى القرآن الكريم.
والمثل هو القول فلانٌ الرجل أي: أنه رجل حقًا؛ وكأن سُلوكه هو مِعْيار الرجولة، وكأن خِصَال الرجولة في غيره ليست مُكْتملة كاكتمالها فيه، أو كقولك فلان الشاعر أي: أنه شاعر مُتميِّز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة {الكتاب} إذا أُطْلِقتْ ينصرف في العقائد إلى القرآن الكريم، وكلمة الكتاب إذا أُطِلقت في النحو انصرفتْ إلى كتاب سيبويه الذي يضم قواعد النحو. ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم: {... والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1]
ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئًا من وراء تلك المخالفة. وقد قال سبحانه في أواخر سورة يوسف: {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ثم وصف القرآن الكريم، فقال تعالى: {... مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يريد الكَسْب منكم، لكنه شاء أن يُنزِل هذا الكتاب لتكسبوا أنتم: {... ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1]
أي: أن أكثر مَنْ دعوتَهُم إلى الإيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأنه نزل إليك من ربك؛ لأنهم لم يُحسِنوا تأمُّل ما جاء فيه؛ واستسلموا للهَوَى. وأرادوا السلطة الزمنية، ولم يلتفتوا إلى أن ما جاء بهذا الكتاب هو الذي يعطيهم خير الدنيا والآخرة.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {الله الذي رَفَعَ السماوات...} وكلمة {الله} عَلَمٌ على واجب الوجود؛ مَطمورة فيه كُلُّ صفات الكمال؛ ولحظةَ أنْ تقول الله كأنك قُلْتَ القادر الضار النافع السميع البصير المُعْطي... إلى آخر أسماء الله الحسنى. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عمل لا يبدأ باسم الله هو أبتر». لأن كل عمل لا يبدأ باسمه سبحانه؛ لا تستحضر فيه أنه سبحانه قد سَخَّر لك كُلَّ الأشياء، ولم تُسخِّرْ أنت الأشياء بقدرتك.
ولذلك، فالمؤمن هو مَنْ يدخل على أيِّ عمل بحيثية بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأنه سبحانه هو الذي ذلَّلَ للإنسان كل شيء، ولو لم يُذلِّلها لَمَا استجابتْ لك أيها الإنسان. وقد أوضح الحق سبحانه ذلك في أمثلة بسيطة؛ فنجد الطفل الصغير يُمسِك بحبل ويربطه في عنق الجمل، ويأمره بأن ينخّ ويركع على أربع؛ فيمتثل الجمل لذلك.
ونجد البرغوث الصغير؛ يجعل الإنسان ساهرًا الليل كُلَّه عندما يتسلل إلى ملابسه؛ ويبذل هذا الإنسان الجَهْدَ الجَهِيد لِيُمسِك به؛ وقد يستطيع ذلك؛ وقد لا يستطيع. وهكذا نعرف أن أحدًا لم يُسخِّر أي شيء بإرادته أو مشيئته، ولكن الحق سبحانه هو الذي يذلِّل كُلَّ الكائنات لخدمة الإنسان.
والحق سبحانه هو القائل: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] وأنت حين تُقبِل على أيِّ عمل يحتاج إلى قدرة فتقول: باسم القادر الذي أعطاني بعض القدرة. وإنْ أقبلتَ على عمل يحتاج مالًا؛ تقول: باسم الغني الذي وَهَبنِي بعضًا من مال أقضي به حاجتي.
وفي كل عمل من الأعمال التي تُقبِل عليها تحتاج إلى قدرة؛ وحكمة؛ وغِنىً، وبَسْط؛ وغير ذلك من صفات الحق التي يُسخِّر بها سبحانه لك كُلَّ شيء؛ فشاءتْ رحمتُه سبحانه أنْ سَهَّل لنا أن نفتتح أيَّ عمل باسمه الجامع لكل صفات الجمال والكمال بسم الله الرحمن الرحيم.
ولذلك يُسَمُّونه عَلَمٌ على واجب الوجود. وبقية الأسماء الحسنى صفات لا توجد بكمالها المُطْلق إلاَّ فيه؛ فصارتْ كالاسم.
فالعزيز على إطلاقه هو الله. ولكِنَّا نقول عن إنسان ما: عزيزُ قومِه، ونقول الغَنيّ على إطلاقه هو الله، ولكِنْ نقول فلان غنيّ وفلان فقير. وهكذا نرى أنها صفاتٌ أخذتْ مرتبة الأسماء؛ وهي إذا أُطِلقَتْ إنما تشير إليه سبحانه. وعرفنا من قَبْل أن أسماء الله؛ إما أن تكون أسماءَ ذات؛ وإما أن تكون أسماءَ صفات؛ فإنْ كان الاسم لا مقابل له فهو اسمُ ذاتٍ؛ مثل: العزيز. أما إنْ كان الاسم صفةَ الصفة والفعل، مثل المُعِز فلابُدَّ أن له مقابلًا، وهو هنا المُذِلّ.
ولو كان يقدر أنْ يُعِزَّ فقط؛ ولا يقدر أن يُذِلَّ لما صار إلهًا، ولو كان يضر فقط، ولا ينفع أحدًا لَمَا استطاع أن يكون إلهًا، ولو كان يقدر أنْ يَبسُطَ، ولا يقدر أن يقبض لما استطاع أنْ يكون إلهًا. وكل هذه صفات لها مُقَابِلها؛ ويظهر فعْلُها في الغير؛ فسبحانه على سبيل المثال عزيزٌ في ذاته؛ ومُعِزٌّ لغيره، ومُذِلٌّ لغيره.
وكلمة الله هي الاسم الجامع لكل صفات الكمال، وهناك أسماء أخرى علَّمها الله لبعض من خلقه، وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إنْ شاء الله حين نلقاه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]
ونلحظُ أن الحق سبحانه بدأ هذه الآية بالحديث عن العالم العُلْوي أولًا؛ ولم يتحدث عن الأرض؛ فقال: {الله الذي رَفَعَ السماوات...} [الرعد: 2].
وكلمة {رفع} إذا استعملتَها استعمالًا بشريًا؛ تدلُّ أن شيئًا كان في وَضْع ثم رفعتَه عن موضعه إلى أعلى؛ مثل قول الحق سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش...} [يوسف: 100]، فقد كان أَبَوا يوسف في موضع أقلّ؛ ثم رفعهما يوسف إلى موضع أعلى مما كَانَا فيه، فهل كانت السماء موضوعة في موضع أقلّ؛ ثم رفعها الله؟ لا، بل خلقها الله مرفوعة.
ورَحِم الله شيخنا عبد الجليل عيسى الذي قال: لو قلت: سبحان الله الذي كبَّر الفيل؛ فهل كان الفيل صغيرًا ثم كبَّره الله؛ أم خلقه كبيرًا؟ لقد خلقه الله كبيرًا. وإنْ قلت: سبحان الله الذي صغَّر البعوضة؛ فهل كانت كبيرة ثم صَغَّرها الله؟ لا بل خلقها الله صغيرة. وحين يقول سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ...} [الرعد: 2] فهذا يعني أنه خلقها مرفوعة، وفي العُرْف البشري نعرف أن مُقْتضى رَفْع أيِّ شيء أَنْ تُوجَد من تحته أعمدة ترفعه.